يصدر صندوق النقد الدولي تقاريره عن الوضع الاقتصادي العراقي، بثلاثية معقدة من المشكلات، منها استمرار الحرب الأهلية وسيطرة “داعش” على مساحات غير قليلة من الأراضي العراقية بما تحويه من آبار النفط، وكذلك، انهيار أسعار النفط منذ يوليو 2014، والتأثير السلبي لذلك على ميزان المدفوعات وعجز الموازنة وتراجع الناتج المحلي، وارتفاع أعداد النازحين وما يترتب على ذلك من أعباء اجتماعية، حيث يقدر الصندوق عدد من يحتاجون لمساعدات إنسانية في العراق بنحو ثلث السكان.
ويهمل صندوق النقد الدولي الإشارة إلى الفساد الذي يضرب في أطناب كافة الحكومات العراقية منذ احتلاله في عام 2003 وحتى الآن، وعلى مدار ثلاث سنوات مضت يصنف العراق ضمن الدول الأسوأ فساداً على مستوى العالم، ويحصل على 16 درجة من درجات المؤشر البالغة 100 درجة. وتعد عقود النفط والواردات الحكومية، من أكبر أبواب ممارسة الفساد في العراق.
وثمة مجموعة من البرامج أعلنت عنها الحكومة العراقية للإصلاح الاقتصادي، يشرف عليها صندوق النقد الدولي في إطارها الفني، ولكنها تواجه صعوبات في ظل المعضلات المشار إليها سابقًا، وبخاصة تراجع عوائد النفط.
وبلا شك أن تحقيق إصلاح اقتصادي بالعراق سيكون له مردود إيجابي للعراق نفسه، وكذلك على الصعيد الإقليمي، ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، فهناك معوقات تحول دون تحقيق هذا الإصلاح، وبخاصة أن أزمة العراق الإنسانية عميقة، فتقديرات صندوق النقد الدولي تذهب إلى وجود 4 ملايين نازح عراقي في الداخل، كما أن عجز الموازنة تفاقم ليصل إلى 15% بنهاية عام 2015، وأيضاً تراجع رصيد احتياطي النقد الأجنبي من 67 مليار دولار في أكتوبر 2014 إلى 54 مليار بنهاية 2015، ويتوقع صندوق النقد أن يتهاوى احتياطي النقد العراقي لنحو 42 مليار دولار في نهاية 2016.
ومن هنا نجد أن عملية الإصلاح الاقتصادي بالعراق سوف تواجه صعوبات عدة، على الأقل في الأجلين القصير والمتوسط، نشير إلى بعض منها فيما يلي:
مما يزيد من صعوبة تحقيق الاصلاح الاقتصادي في العراق، صراع الإرادات السياسية، سواء تلك المتعلقة بالوضع الداخلي وتفاقم النزاع الطائفي، أو تلك التي تقوم بها دول المنطقة لزيادة نفوذها في العراق، من قبل إيران والسعودية وتركيا، على اختلاف طبيعة دور كل منهم وحجمه. ولذلك فإن أي برنامج للإصلاح الاقتصادي بالعراق، يتطلب حالة من الاستقرار السياسي والأمني داخلياً، والتي يعصب التنبؤ بها في ضوء الواقع المعيش، وتمدد دور “داعش”، والميل للعنف بين الأطراف المتصارعة هناك.
وإن كانت للأطراف الأقليمية مصالحها الاقتصادية في العراق، وبخاصة لكل من إيران وتركيا، فإن استقرار العراق ودخوله في إصلاح اقتصادي حقيقي، سوف يعظم المصالح الاقتصادية للدول الإقليمية، ولكن شريطة ألا تتدخل هذه الدول في إدارة الشأن العراقي في ضوء الصراعات الضيقة.
ظل العراق لعقود طويلة مضت دولة نفطية، تحظى بعضوية منظمة “الأوبك”، ولم تفلح في التحول إلى اقتصاد متنوع، على الرغم من توفر الإمكانيات التي تساعد على ذلك، ولكن الحرب العراقية الإيرانية، ثم العقوبات الاقتصادية المفروضة على العراق بعد أزمة الخليج الثانية، وكذلك الإطاحة بنظام صدام حسين واحتلال العراق، وعدم استقراره إلى الآن، حال دون نجاح تحقيق تنوع اقتصادي بالعراق.
وتراهن خطط النهوض وإصلاح الاقتصاد العراقي المعلنة من قبل الحكومة العراقية، على العوائد النفطية، على أمل أن تشهد أسعار النفط تحسناً على مدار عامي 2016 و2017، وهو أمر احتمالي، يخضع لعوامل كثيرة.
وحتى إذا تحقق في أحسن الأحوال، فإن سقف الارتفاع في أسعار النفط، سيظل محدوداً، ولن يفي باحتياجات العراق المالية، التي يستطيع من خلالها، تنشيط الاستثمارات خارج النطاق النفطي، فضلاً عن الوفاء بالالتزامات الاجتماعية، والتي ستزيد صعوبة، إذا ما أقدمت الحكومة العراقية على تطبيق إصلاحات تتعلق بالأجور ونظام المعاشات.
لم تجد الحكومة العراقية مخرجاً للوفاء بسد عجز الموازنة العامة للدولة، سوى الاقتراض المحلي والخارجي، فعبر صندوق النقد الدولي تم اقتراض 1.5 مليار دولار، وكانت هناك ترتيبات لإصدار سندات دولية بنحو 2 مليار دولار أخرى.
ولم يمنع ذلك من تشغيل آلية الاقتراض المحلي عبر البنوك الحكومية، من خلال السندات وأذون الخزنة، مما أدى إلى أن يرتفع الدين العام (المحلي+ الخارجي) لتصل نسبته لـ 62% من الناتج المحلي الإجمالي، في نهاية 2015، بعد أن كان بحدود 39% في عام 2014، ويتوقع صندوق النقد الدولي أن ترتفع هذه النسبة إلى 66% بنهاية 2016.
ومن شأن الاعتماد على تمويل عجز الموازنة من خلال التوسع في الدين العام، أن يحد من صلاحية الحكومة في الوفاء بالتزاماتها الاجتماعية تجاه النازحين في الداخل، ومواجهة انتشار الفقر، وبخاصة أن غالبية النازحين من الفئات المهمشة، من الأطفال والنساء.
ومن المتوقع أن يسعى العراق للحصول على تمويل عبر صندوق النقد الدولي، يقدر بنحو 15 مليار دولار خلال 3 سنوات، إذا ما تم الوصول إلى اتفاق مع الصندوق خلال أبريل الحالي، يتم بمقتضاه حصول العراق على 5 مليارات من الصندوق خلال عام 2016، وباقي المبلغ من مؤسسات دولية ومانحين من دول الخليج وأمريكا وأوروبا على مدار العامين القادمين.
وسيكون قرض الصندوق بمثابة فتح الباب أمام العراق للاقتراض الخارجي، وبخاصة أن الإدارة الاقتصادية في العراق لا تخضع لرقابة حقيقية، وبالتالي سيكون المجال بمثابة اتجاه لإغراق العراق في دوامة الديون.
لعل ما تعانيه العراق اليوم من مشكلات اقتصادية معقدة، هو نتيجة لممارسات الفساد التي شهدتها مؤسسات الدولة منذ عام 2003، حيث كثرت عمليات تهريب الأموال للخارج، والتعدي على سلطات البنك المركزي العراقي في اتباع خطوات رسمية في التحويلات المالية.
وعلى الرغم من الحديث المعلن من الداخل والخارج عن فساد رؤساء الوزراء والوزراء، لم يجر أي تحقيق من أجل الشفافية، واسترجاع الأموال المنهوبة، وهو ما يكرس بأن مناخ الاستثمار في العراق سيئ السمعة، ولا يستجلب للعراق إلا وسطاء الفساد، في الوقت الذي يحتاج إليه العراق لمستثمرين حقيقيين يساهموا في تغيير هيكل الناتج المحلي الإجمالي، بإنعاش حركة الصناعة والزراعة.
إن بقاء العراق ضمن أفسد 10 اقتصاديات على مستوى العالم خلال السنوات الماضية، كفيل بأن يدرك صانع السياسة الاقتصادية، بأن القضاء على الفساد أول خطوات الإصلاح الاقتصادي الجاد، وبدونها لن تجد أية إصلاحات مالية أو نقدية، وسيكون الفساد جدير بالتهام أي ثمار يمكن تحقيقها.
يمكننا القول في الختام، بأنه في ظل ملهاة العراق السياسية والأمنية، من الصعوبة بمكان الحديث عن إصلاح اقتصادي، حتى ولو تحسنت أسعار النفط، وتبدلت كافة المؤشرات إلى واقع إيجابي، فلن تغير من الواقع الإنساني شيئاً.
فالإنسان هو هدف التنمية، وهو صانعها، فما جدوى أن يزيد احتياطي النقد الأجنبي، أو يقل عجز الموازنة، أو يتحسن ميزان المدفوعات، وفي نفس الوقت يزيد عدد النازحين في الداخل، أو تتفاقم مشكلة المحتاجين للمساعدات الإنسانية.
الاقتصاد ليس أرقاماً صماء، ولكنه مردود اجتماعي، يرتقي بمستوى معيشة الإنسان، ليحظى بتحقق مؤشرات التنمية البشرية المتعارف عليها، أو تلك التي أوجزها الحديث النبوي الشريف “من بات آمناً في سربه، معافاً في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا”.